سورة الأنعام - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)}
{بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} إضراب عما يؤذن به تمنيهم من الوعد بتصديق الآيات والإيمان بها أي ليس ذلك عن عزم صحيح ناشىء عن رغبة في الإيمان وشوق إلى تحصيله والاتصاف به بل لأنه بدا وظهر لهم في وقوفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من ثالثة الأثافي والداهية الدهياء فلشدة هول ذلك ومزيد ضجرهم منه قالوا ما قالوا، فالمراد من الموصول النار على ما يقتضيه السوق ومن إخفائها ستر أمرها وذلك بإنكار تحققها وعدم الإيمان بثبوتها أصلًا فكأنه قيل: بل بدا لهم ما كانوا يكذبون به في الدنيا وينكرون تحققه.

وإنما لم يصرح سبحانه بالتكذيب كما في قوله عز شأنه: {هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون} [الرحمن: 43] وقوله عز من قائل: {هذه النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ} [الطور: 41] مع أن ذلك أنسب بما قبل من قولهم: {وَلاَ نُكَذّبَ بئايات رَبّنَا} [الأنعام: 27] مراعاة لما في مقابله من البدو في الجملة مع ما في ذلك من الرمز الخفي إلى أن تكذيبهم هذا لم يكن في محله رأسًا لقوة الدليل، وقيل: المراد بما كانوا يخفونه قبائحهم من غير الشرك التي كانوا يكتمونها عن الناس فتظهر في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم، وقيل: المراد به الشرك الذي أنكروه في بعض مواقف القيامة بقولهم: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، وقيل: المراد به أمر البعث والنشور، والضمير المرفوع لرؤساء الكفار والمجرور لأتباعهم أي ظهر للتابعين ما كان الرؤساء المتبوعون يخفونه في الدنيا عنهم من أمر البعث والنشور، ونسب إلى الحسن واختاره الزجاج.
وقيل: الآية في المنافقين، والضمير المرفوع لهم، والمجرور للمؤمنين، والمراد بالموصول الكفر أي بل ظهر للمؤمنين ما كان المنافقون يخفونه من الكفر ويكتمونه عنهم في الدنيا، وقيل: هي في أهل الكتاب مطلقًا أو علمائهم، والذي أخفوه نبوة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، والضميران المرفوع والمجرور لهم وللمؤمنين أو للخواص والعوام. وتعقب كل ذلك بأنه بعد الإغضاء عما فيه من الاعتساف لا سبيل إليه هنا لأن سوق النظم الجليل لتهويل أمر النار وتفظيع حال أهلها، وقد ذكر وقوفهم عليها وأشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحيرة والدهشة ما لا يحيط به الوصف، ورتب عليهم تمنيهم المذكور بالفاء القاضية بسببية ما قبلها لما بعدها فإسقاط النار بعد ذلك من السببية وهي في نفسها أدهى الدواهي وأزجر الزواجر إلى ما دونها في ذلك مع عدم جريان ذكره ثمة أمر ينبغي تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله، ونقل عن المبرد أن الكلام على حذف مضاف أي بدا لهم وبال ما كانوا يخفون ولا يخفى ما فيه أيضًا فتدبر.
{وَلَوْ رُدُّواْ} من موقفهم ذلك إلى الدنيا {لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} من الكفر والتكذيب أو من الأعم من ذلك ويدخل فيه ما ذكر دخولًا أوليًا ولا يخفى حسنه، ووجه اللزوم في هذه الشرطية سبق قضاء الله تعالى عليهم بذلك التابع لخبث طينتهم ونجاسة جبلتهم وسوء استعدادهم ولهذا لا ينفعهم مشاهدة ما شاهدوه، وقيل: إن المراد أنهم لو ردوا إلى حالهم الأولى من عدم العلم والمشاهدة لعادوا، ولا يخفى أنه لا يناسب مقام ذمهم بغلوهم في الكفر والإصرار وكون هذا جوابًا لما مر من تمنيهم. وذكر بعض الناس في توجيه عدم نفع المشاهدة في الآخرة لأهوالها المترتبة على المعاصي بعد الرد إلى الدنيا أنها حينئذٍ كخبر النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالمعجزات الباهرة فحيث لم ينتفعوا به وصدهم ما صدهم لا ينتفعون بما هو مثله ويصدهم أيضًا ما يصدهم. وأنت تعلم أن هذا بعد تسليم كون المشاهدة بعد الرد كخبر الصادق يرجع في الآخرة إلى ما أشرنا إليه من سبق القضاء وسوء الاستعداد، ومن خلق للشقاء والعياذ بالله سبحانه وتعالى للشقاء يكون.
{وَإِنَّهُمْ لكاذبون} أي لقوم كاذبون فيما تضمنه تمنيهم من الخبر بأن ذلك مراد لهم، ويحتمل أن يكون هذا ابتداء إخبار منه تعالى بأن ديدن هؤلاء وهجيراهم الكذب. وليس الكذب على الاحتمالين متوجهًا إلى التمني نفسه لأنه إنشاء والإنشاء لا يحتمل الصدق والكذب. وقال الربعي: لا بأس بتوجه الكذب إلى التمني لأنه يحتمل الصدق والكذب بنفسه واحتج على ذلك بقوله:
منى أن تكن حقًا تكن أحسن المنى *** وإلا فقد عشنا بها زمنًا رغدًا
لأن الحق عنى الصدق وهو ضد الباطل والكذب، ولا يخفى ما فيه مع أنه لو سلم فهو مجاز أيضًا. وقيل: الخبر الضمني هنا هو الوعد بالإيمان وعدم التكذيب. واعترض بأن الوعد كالوعيد من قبيل الإنشاء كما حقق في موضعه فلا يتوجه إليه الكذب والصدق كما لا يتوجهان إلى الإنشاء. وأجيب بأن ذلك أحد قولين في المسألة، ثانيهما أن الوعد والوعيد من قبيل الخبر لا الإنشاء، وهذا القيل مبني عليه على أنه يحتمل أن المراد بالكذب المتوجه إلى الوعد عدم الوفاء به لا عدم مطابقته للواقع كما ذكره الراغب.


{وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بْعُوثِينَ (29)}
{وَقَالُواْ} عطف على {عادوا} كما عليه الجمهور. واعترضه ابن الكمال بأن حق {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} [الأنعام: 28] حينئذٍ أن يؤخر عن المعطوف أو يقدم على المعطوف عليه. وأجيب بأن توسيطه لأنه اعتراض مسوق لتقرير ما أفادته الشرطية من كذبهم المخصوص ولو أخر لأوهم أن المراد تكذيبهم في إنكارهم البعث. وجوز أن يكون عطفًا على {إِنَّهُمْ لكاذبون} أو على خبر إن أو على {نُهُواْ} [الأنعام: 28] والعائد محذوف أي قالوه، وأن يكون استئنافًا بذكر ما قالوا في الدنيا.
{إِنْ هِىَ} أي ما هي {إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} والضمير للحياة المذكورة بعده كما في قول المتنبي:
هو الجد حتى تفضل العين أختها *** وحتى يكون اليوم لليوم سيدًا
وقد نصوا على صحة عود الضمير على متأخر لفظًا ورتبة في مواضع، منها ما إذا كان خبر الضمير مفسرًا له كما هنا. وجعله بعضهم ضمير الشأن. ولا يتأتى على مذهب الجمهور لأنهم اشترطوا في خبره أن يكون جملة. وخالفهم في ذلك الكوفيون فقد حكي عنهم جواز كون خبره مفردًا إما مطلقًا أو بشرط كون المفرد عاملًا عمل الفعل كاسم الفاعل نحو إنه قائم زيد بناءً على أنه حينئذٍ يسد مسد الجملة. وقيل وفيه بعد: يحتمل أن يكون الضمير المذكور عبارة عما في الذهن وهو الحياة والمعنى إن الحياة إلا حياتنا التي نحن فيها. وهو المراد بقولهم: الدنيا لا القريبة الزوال أو الدنيئة أو المتقدمة على الآخرة كما يقول المؤمنون إذ كل ذلك خلاف الظاهر لا سيما الأخير. {وَمَا نَحْنُ بْعُوثِينَ} أي إذا فارقتنا هذه الحياة أصلًا.


{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)}
{وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ} تمثيل لحبسهم للسؤال والتوبيخ أو كناية عنه عند من لم يشترط فيها إمكان الحقيقة وجوز اعتبار التجوز في المفرد إلا أن الأرجح عندهم اعتباره في الجملة، وقيل: الوقوف عنى الاطلاع المتعدي بعلى أيضًا وفي الكلام مضاف مقدر أي وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه، ولا حاجة إلى التضمين وجعله من القلب كما توهم، وقيل: هو عنى الاطلاع من غير حاجة إلى تقدير مضاف على معنى عرفوه سبحانه وتعالى حق التعريف ولا يلزم من حق التعريف حق المعرفة ليقال كيف هذا وقد قيل: ما عرفناك حق معرفتك، واستدل بعض الظاهرية بالآية على أن أهل القيامة يقفون بالقرب من الله تعالى في موقف الحساب ولا يخفى ما فيه.
{قَالَ} استئناف نشأ من الكلام السابق كأنه قيل: فماذا قال لهم ربهم سبحانه وتعالى إذ ذاك؟ فقيل: قال: الخ. وجوز أن يكون في موضع الحال أي قائلًا {أَلَيْسَ هذا} أي البعث وما يتبعه {بالحق} أي حقًا لا باطلًا كما زعمتم، وقيل: الإشارة إلى العقاب وحده وليس بشيء، ولا دلالة في {فَذُوقُواْ} عند أرباب الذوق على ذلك، والهمزة للتقريع على التكذيب {قَالُواْ} استئناف كما سبق {بلى} هو حق {وَرَبُّنَا} أكدوا اعترافهم باليمين إظهارًا لكمال تيقنهم بحقيته وإيذانًا بصدور ذلك عنهم برغبة ونشاط طمعًا بأن ينفعهم وهيهات {قَالَ فَذُوقُواْ العذاب} الذي كفرتم به من قبل وأنكرتموه {ا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي بسبب كفركم المستمر أو ببدله أو قابلته أو بالذي كنتم تكفرون به، فما إما مصدرية أو موصولة والأول أولى، ولعل هذا التوبيخ والتقريع كما قيل «إنما يقع بعدما وقفوا على النار فقالوا ما قالوا إذ الظاهر أنه لا يبقى بعد هذا الأمر إلا العذاب»، ويحتمل العكس وأمر الأمر سهل.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13